فصل: (فرع: جواز مراجعة المحرم)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان في مذهب الإمام الشافعي



.[فرع: جواز مراجعة المحرم]

ويجوز للمحرم أن يراجع زوجته، وبه قال كافة أهل العلم.
وقال أحمد: (لا يجوز له أن يراجعها).
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة: 228]. ولم يفرق.
ولأن الرجعة عقد لا يفتقر إلى الإشهاد، فلم يمنع منه الإحرام، كالبيع. أو لأنه استباحة بضع يختص به الزوج، فلم يمنع منه الإحرام، كالتكفير في الظهار.

.[مسألة:تحريم الوطء والمباشرة في الإحرام]

ويحرم على المحرم الوطء في الفرج؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197]. ومعنى قوله: (فرض) أي: أوجب.
قال ابن عباس: (الرفث: الجماع).
وتجب به الكفارة على ما يأتي ذكرها، إن شاء الله تعالى.
ويحرم عليه المباشرة فيما دون الفرج بشهوة؛ لأنه إذا حرم عليه عقد النكاح..
فلأن يحرم عليه المباشرة بشهوة - وهي أدعى إلى الوطء في الفرج - أولى، وتجب به الفدية على ما يأتي ذكرها، إن شاء الله تعالى.

.[مسألة:صيد المحرم]

ويحرم على المحرم أخذ صيد البر؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96]. و(الحرم): جمع حرام، و(الحرام): هو المحرم.
ولقوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2] فأباح الاصطياد للمحرم، إذا حل، فدل على: أنه كان قبل التحلل محرما عليه.
فإن أخذه.. لم يملكه، كما لو غصب مال غيره. فإن كان الصيد مملوكا لآدمي.. وجب عليه رده إلى مالكه. وإن كان مباحا.. وجب عليه أن يرسله في موضع يمتنع فيه عمن يأخذه. ولا يزول عنه الضمان إلا بذلك؛ لأن ما حرم أخذه لحق الغير، إذا أخذه.. وجب رده على مالكه، كالمغصوب. وإن تلف عنده.. وجب عليه الجزاء، كما لو غصب مال غيره وتلف عنده.

.[فرع: هلاك الصيد بإنقاذه]

قال الشافعي: (وإن خلص حمامة من فم هرة أو سبع أو شق جدار لحجت فيه أي بغرر أو أصابتها لدغة فسقاها ترياقا أو غيره ليداويها، فماتت.. فلا ضمان عليه؛ لأنه أراد صلاحها ومداواتها. ولو قال قائل: إن عليه الضمان؛ لأنه قد أراد صلاحها، إلا أنها تلفت في يده، فضمها باليد.. كان وجها محتملا)؛ فحصل فيها قولان.

.[فرع: صيد البحر]

وإن أخذ المحرم شيئا من صيد البحر.. جاز، ولا جزاء عليه؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96].
فأحل صيد البحر، ولم يفرق، وخص تحريم صيد البر على المحرم، فدل على أن صيد البحر لا يحرم عليه.

.[فرع: قتل المحرم الصيد]

وما حرم على المحرم أخذه من الصيد.. حرم عليه قتله؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95].
فإن قتله عمدا أو خطأ.. وجب عليه الجزاء، وبه قال عامة الفقهاء.
وقال داود: (إن قتله عمدا.. وجب عليه الجزاء، وإن قتله خطأ.. لم يجب عليه)، وهي إحدى الروايتين عن أحمد.
وقال مجاهد: إن قتله عمدا.. لم يجب عليه الجزاء؛ لأن ذنبه أعظم من أن يكفره الجزاء. وإن قتله خطأ أو ناسيا لإحرامه.. وجب عليه الجزاء.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95].
وهذا يسقط قول مجاهد.
وعلى داود: ما روى جابر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الضبع صيد، وفيه كبش إذا أصابه المحرم»، ولم يفصل. ولأن هذا تكفير يتعلق بالقتل، فاستوى فيه العمد والخطأ، ككفارة القتل.

.[فرع: قتل المحرم للصيد المملوك]

وإن كان الصيد المقتول مملوكا لآدمي، فقتله... فعليه القيمة لمالكه، والجزاء للمساكين، وبه قال أبو حنيفة.
وقال مالك والمزني: (تجب فيه القيمة دون الجزاء).
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95].
ولم يفصل بين المملوك والمباح. ولأنه صيد ممنوع من قتله؛ لحرمة الإحرام، فوجب بقتله الجزاء، كغير المملوك.

.[فرع: جرح الصيد وإتلاف بعضه]

ويحرم عليه جرح الصيد وإتلاف أجزائه؛ لأن ما منع من إتلافه لحق الغير.. منع من جرحه وإتلاف أجزائه، كالآدمي. فإن جرحه أو أتلف جزءا منه.. وجب عليه الجزاء.
وقال مالك وأبو حنيفة وداود: (لا جزاء عليه في جرح الصيد، ولا في قطع عضو منه).
دليلنا: أن الصيد حيوان مضمون بالإتلاف، فوجب أن تكون الجناية عليه مضمونة، قياسا على العبد وسائر الدواب.

.[فرع: تنفير الصيد]

ويحرم عليه تنفير الصيد؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في مكة: «لا ينفر صيدها»، وإذا حرم ذلك في صيد الحرم.. حرم ذلك على المحرم.
فإن نفره، فتلف من نفوره، بأن صدمة شيء أو وقع في ماء أو بئر أو أكله في حال نفوره حية أو سبع.. فإن عليه الجزاء؛ لما روي: أن عمر علق رداءه، فوقع عليه طير، فخاف أن ينجسه، فطيره فنهشته حية، فقال: (أنا طردته حتى نهشته الحية، فسأل من كان معه أن يحكموا عليه، فحكموا عليه بشاة). ولأنه تلف بسبب فعله، فهو كما لو جرحه، فمات.
قال الشافعي: (وإن كان راكبا دابة، أو سائقا لها، أو قائدا لها، فأتلفت بفمها أو يديها أو رجلها أو ذنبها صيدا.. فعليه الجزاء)؛ لأنها في يده، فكانت جنايتها كجنايته.

.[فرع: قتل الصيد وغيره بسبب فعله]

قال الشافعي في القديم: (وإن رمى المحرم إلى صيد سهما، فأصابه وأنفذه إلى آخر، فأصابه وقتلهما... كان عليه جزاؤهما)؛ لأن الأول قتله عمدا، والثاني قتله خطأ.
وإن رمى إلى صيد سهما.. فأصابه، فاضطرب الصيد، فوقع على فرخة فقتلها، أو على بيضة فكسرها.. كان عليه ضمان الصيد والفرخ والبيض؛ لأن الصيد قتله بفعله، والفرخ والبيض بسبب فعله.

.[فرع: الدلالة والإعانة على قتل الصيد]

ويحرم على المحرم أن يعين على قتل الصيد بدلالة أو إعارة آلة؛ لأن ما منع من إتلافه.. حرمت عليه الإعانة على قتله، كالآدمي. فإن خالف وأعان على قتله بدلالة أو إعارة آلة.. كان الجزاء على قاتله إن كان محرما، ولا شيء عليه إن كان محلا، ولا يجب على المعين جزاء، سواء كانت الدلالة أو إعارة الآلة مما يستغنى عنهما، بأن يكون الصيد ظاهرا يراه كل أحد، فدل عليه المحرم، أو أعار القاتل سلاحا ومعه مثله. أو كان ما فعله مما لا يستغني عنه القاتل، بأن يكون الصيد مختفيا لم يره غير المحرم، أو أعار القاتل سلاحا وليس مع المستعير ذلك. وبهذا قال مالك.
وقال أبو حنيفة في الدلالة الظاهرة وإعارة السلاح الذي يستغنى عنه مثل قولنا.
فأما في الدلالة الخفية وإعارة ما لا يستغني عنه القاتل.. فعلى كل واحد منهما جزاء.
وقال عطاء ومجاهد وحماد وأحمد: (إن كانا محرمين.. وجب عليهما جزاء واحد، وإن كان القاتل حلالا.. وجب الجزاء على المحرم المعين).
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95].
والدال والمعير ليسا بقاتلين للصيد. ولأن ضمان الصيد ضمان نفس، فوجب أن لا يتعلق بالدلالة وإعارة السلاح، كضمان الآدمي.

.[فرع: أكل المحرم للصيد]

يجوز للمحرم أكل ما لم يصد له، ولا أعان على قتله. فإن صيد له.. حرم عليه أكله سواء علم به وأمر، أو لم يعلم به ولم يأمر. وكذلك يحرم عليه أكل ما أعان على قتله بدلالة أو إعارة آلة، سواء دل عليه دلالة ظاهرة أو خفية، وسواء أعاره ما يستغني عنه القاتل أو ما لا يستغني عنه.
وقال أبو حنيفة كقولنا فيما صيد له بأمره، أو كان له أثر لا يستغني عنه القاتل.
فأما إذا صيد له بغير علمه، أو أعان عليه بدلالة ظاهرة أو إعارة آلة يستغني عنها القاتل.. فيجوز له أكله.
وقال بعض الناس: لا يجوز للمحرم أكل الصيد بحال.
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الصيد حلال لكم، ما لم تصيدوه أو يصد لكم». وهذا
يبطل قول من قال: لا يحل الصيد بحال وقول أبي حنيفة.
وما «روى أبو قتادة قال: خرجت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه، وهم محرمون، وأنا حلال، فرأيت حمارا وحشيا، فسألتهم أن يناولوني رمحا، فلم يفعلوا، وسألتهم أن يناولوني سوطا، فلم يفعلوا، فشددت على دابتي فأخذته، فبعضهم أكل وبعضهم لم يأكل، ثم أخبروا بذلك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: «طعمة أطعمكموها الله ". وفي رواية: أنه قال: «هل أشرتم؟ هل أعنتم؟» قالوا: لا، فقال: «كلوا ما بقي» ولم يفصل في الإشارة والإعانة.
فإن خالف وأكل من لحم ما صيد له، أو أعان على قتله.. فهل يضمن ما أكله بالجزاء؟ فيه قولان:
أحدهما قال في القديم: (يجب عليه الجزاء)؛ لأن الأكل ممنوع منه، كما أن القتل ممنوع منه، فإذا وجب عليه الجزاء بالقتل.. وجب عليه بالأكل.
والثاني: قال في الجديد: (لا جزاء عليه)، وهو الصحيح؛ لأن كل لحم لو أكله الحلال.. لم يضمنه بالجزاء، فإذا أكله المحرم.. لم يضمنه بالجزاء، كما لو أكل من لحم صيد قتله بنفسه. ولأن الجزاء إنما يجب بإتلاف ما كان ناميا، كالصيد وشجر الحرم، أو ما يكون منه النماء، كالبيض. واللحم ليس بنام ولا يؤول إلى النماء، فهو كالبيض المذر، والشجر اليابس.

.[فرع: أكل ما ذبحه المحرم من الصيد]

إذا ذبح المحرم صيدا.. لم يحل له أكله؛ لأنه إذا لم يحل له أكل ما صيد له.. فلأن لا يحل له أكل ما ذبحه أولى، وهل يحل لغيره؟ فيه قولان:
الأول: قال في القديم: (يحل)؛ لأن كل من حل بذكاته غير الصيد.. حل بذكاته الصيد، كالحلال والذمي، وعكسه المجوسي.
والثاني: قال في الجديد: (لا يحل) لأنها ذكاة ممنوع منها، لحق الله تعالى، فلم يبح الأكل، كذكاة المجوسي وفيه احتراز من ذبح شاة الغير بغير إذنه.. فإنه ممنوع منها؛ لحق مالكها.
فإن أكل المحرم من لحم ما ذبحه.. فقد فعل محرما، ولا جزاء عليه للأكل.
وقال أبو حنيفة: (عليه الجزاء)، وهو: ضمان قيمة ما أكل.
دليلنا: قوله: «الضبع صيد، وفيه كبش إذا أصابه المحرم»، ولم يفصل بين أن يأكل منه أو لا يأكل، فاقتضى الظاهر: أن هذا جميع ما يلزمه.

.[فرع: تملك المحرم للصيد]

ولا يجوز للمحرم أن يتهب الصيد، ولا يقبل هديته. فإن اتهبه أو قبل الهدية فيه.. لم يملكه؛ لما روى ابن عباس: «أن الصعب بن جثامة أهدى إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حمارا وحشيا فرده عليه، وقال: «إنه ليس بنا رد، ولكنا حرم».
وكذلك لا يملك المحرم الصيد بالابتياع؛ لأنه سبب يملك به باختياره، فلم يملك به الصيد، كالهدية.
وإن مات للمحرم من يرثه، وفي ملكه صيد.. فهل يرثه المحرم؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يدخل في ملك المحرم؛ لأن الإرث أحد أسباب الملك، فلم يملك به المحرم الصيد، كالهدية والبيع.
فعلى هذا: يبقى الصيد في حكم ملك الميت، حتى يحل المحرم من إحرامه، فيملكه.
والثاني: أنه يملكه؛ لأن الإرث أقوى من الهدية والبيع؛ لأنه يدخل في ملكه بغير اختياره.
قال القاضي أبو الطيب: لا يتصور هذا الوجه إلا إذا قلنا: لا يزول ملكه عن الصيد بالإحرام، وأما إذا قلنا: يزول ملكه.. فلا يرثه. وهذه طريقة أصحابنا البغداديين.
وقال القفال: المحرم يملك الصيد بالإرث قولا واحدا، وهل يملكه بالهبة والبيع؟ فيه قولان. كما يملك الكافر العبد المسلم بالإرث قولا واحدا، وهل يملكه بالهبة والبيع؟ فيه قولان.
إذا ثبت هذا: فاتهب المحرم صيدا، أو ابتاعه وقبضه، وقلنا: لا يملكه فإن تلف في يده.. قال ابن الصباغ: أو أتلفه متلف.. وجب عليه الجزاء، ولم يجب عليه قيمة الموهوب لمالكه، ووجبت عليه قيمة المبيع.
والفرق بينهما: أن الهبة الصحيحة لا تقتضي الضمان، فكذلك الفاسدة، والبيع الصحيح يقتضي الضمان، وكذلك الفاسد.
وإن كان الصيد باقيا في يده.. قال الشافعي: (فعليه إرساله).
فمن قال من أصحابنا: إن المحرم يملك الصيد بالهبة والبيع.. تعلق بهذه اللفظة وقال: لولا أنه ملكه.. لما ملك إرساله.
ومن قال منهم: لا يملكه.. قال: أراد به إرساله من يده.
واختلف من قال: لا يملكه في كيفية الإرسال:
فقال الشيخ أبو حامد: يرده إلى يد مالكه ولا يسيبه حتى يتوحش؛ لأن ملك الواهب والبائع لم يزل عنه بالهبة والبيع.
وقال ابن الصباغ: بل يحمل كلام الشافعي على ظاهره، فيرسله بحيث يتوحش، ويمتنع على من يأخذه. ويرد على مالكه القيمة؛ لأن برده إلى مالكه.. لا يزول عنه ضمان الجزاء، وإنما يسقط عنه ضمان قيمته. فإذا أمكنه الجمع بين الحقين.. لم يسقط أحدهما.
فإن قيل: فكيف يسقط حق المالك من الصيد مع بقاء ملكه عليه؟
قيل: لأنه كان السبب؛ لكونه في يد المحرم، وإيجاب إرساله عليه.

.[فرع: الإحرام بعد بيع الصيد]

فإن باع المحل صيدا من محل، فأفلس المشتري، وقد أحرم البائع.. لم يكن له أن يرجع فيه، كما لا يجوز له أن يبتاعه.
وإن أحرم البائع، ووجد المشتري بالصيد عيبا، وأراد رده، فإن قلنا: إن المحرم يرث الصيد.. جاز للمشتري رده عليه؛ لأنه يدخل في ملكه بغير اختياره، وإن قلنا: لا يرث الصيد.. ففيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما: يرده؛ لأن ذلك حق للمشتري، فلا يسقط بإحرام البائع.
والثاني: لا يرده؛ لأنه لا يملك الصيد، فلم يملك رده عليه.
فعلى هذا: ما يصنع المشتري؟ فيه وجهان:
أحدهما قال القاضي أبو الطيب: يرد البائع عليه الثمن، ويوقف الصيد حتى يتحلل فيرده عليه؛ لأن الذي يتعذر هو رد الصيد دون رد الثمن.
والثاني: قال ابن الصباغ: يكون بالخيار: بين أن يقفه حتى يتحلل ويرده، أو يرجع بالأرش؛ لتعذر الرد في الحال؛ لأنه لو ملك المشتري الثمن.. لزال ملكه عن الصيد إلى البائع ولوجب رده عليه.

.[فرع: الإحرام حال ملك الصيد]

وإن أحرم وفي ملكه صيد.. ففيه قولان:
أحدهما: لا يزول ملكه عنه - وبه قال مالك، وأحمد، وأبو حنيفة - لأنه ملكه، فلا يزول عنه بالإحرام، كالزوجة. ولأن المحل لو أخذ صيدا من الحل، وأدخله الحرم.. لم يزل ملكه عنه بدخوله إلى الحرم، فكذلك بدخوله في الإحرام.
والثاني: يزول ملكه عنه؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96].
ولم يفرق. ولأن الصيد لا يراد للاستدامة والبقاء، فإذا منع المحرم من ابتداء ملكه.. منع من استدامة ملكه، كلبس المخيط، وفيه احتراز من النكاح والطيب؛ لأنه لا ينكح ليطلق، ولا يتطيب ليغسله، وإنما اللباس يلبس وينزعه عند الغسل والنوم. وكذلك الصيد يتملكه ليبيعه أو يهبه أو يذبحه، فهو باللباس أشبه.
فإن قلنا: لا يزول ملكه عنه.. فله أن يتصرف فيه بالبيع والهبة وغيرهما، ولا يجوز له قتله، فإن قتله.. وجب عليه الجزاء.
وإن قلنا: يزول ملكه عنه.. وجب عليه إرساله بحيث يمتنع ممن يريد أخذه، فإن تلف في يده.. نظرت: فإن تلف قبل أن يتمكن من إرساله.. فلا جزاء عليه. وإن تلف بعدما تمكن من إرساله.. كان عليه الجزاء؛ لأنه مفرط في إمساكه.
وإن أتلفه غيره، فإن كان محلا.. فلا جزاء عليه. وإن كان محرما.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو حامد:
أحدهما: أن الجزاء على القاتل؛ لأنه صاحب مباشرة، والممسك صاحب سبب، والضمان يتعلق بالمباشرة.
والثاني: أن الجزاء عليهما نصفان؛ لأنه وجد من كل واحد منهما معنى يضمن به الصيد، فاشتركا في الضمان، كما لو قتلاه.
وإن لم يرسله، حتى حل من إحرامه.. ففيه وجهان:
أحدهما: وهو المنصوص -: أنه يلزمه إرساله؛ لأنه متعد بامتناعه من الإرسال، فلا يزول التعدي إلا بإرساله.
والثاني - وهو قول أبي إسحاق -: أنه يعود إلى ملكه؛ لأنه إنما زال ملكه عنه بالإحرام، وقد زال الإحرام، فوجب أن يعود إلى ملكه.
فإن قلنا بالمنصوص، فقتله بعد تحلله.. ففيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو حامد:
أحدهما: لا جزاء عليه؛ لأنه محل قتل صيدا في الحل.
والثاني - وهو المذهب -: أن عليه الجزاء؛ لأنه قد ضمنه باليد في حال الإحرام، فلم يزل عنه الضمان إلا بالإرسال. هذا مذهبنا.
وقد وافقنا أبو حنيفة: أنه لا يزول ملكه عنه بالإحرام، ولكن قال: (إن كان ممسكا له بيده.. لزمه رفع اليد عنه، وإن كان ممسكا له في بيته.. لم يلزمه رفع اليد عنه)، ففرق بين اليد المشاهدة واليد الحكمية، وعندنا لا فرق بينهما.
دليلنا: أن كل ما لا يلزمه إزالة يده الحكمية عنه.. لا يلزمه إزالة اليد المشاهدة عنه، كسائر أملاكه.

.[مسألة:الصيد المتولد بين مأكول وغيره]

وإن كان الصيد غير مأكول.. نظرت: فإن كان متولدا بين ما يؤكل وما لا يؤكل كالسبع: المتولد بين الذئب والضبع، والحمار المتولد بين حمار الوحش وحمار الأهل.. وجب الجزاء بقتله، تغليبا لما يجب فيه الجزاء، كما حرم أكله، تغليبا لما لا يحل أكله.
قال الشافعي: (وإذا ذبح المحرم دجاجة أهلية.. فلا جزاء عليه، ولو ذبح دجاجة حبشية.. كان عليه الجزاء).
قال الشيخ أبو حامد: أراد بالدجاجة الحبشية التي قد ملكت واستأنست؛ لأنها على أصلها.

.[فرع: ذبح ما يؤكل وجزاء ما لا يؤكل]

وإن ذبح المحرم الإبل والبقر والغنم.. جاز، ولا جزاء عليه، بلا خلاف.
وأما ما لا يؤكل من الوحش.. فعلى ثلاثة أضرب:
ضرب: يجب فيه الجزاء، بلا خلاف، وهو المتولد بين ما يؤكل وما لا يؤكل، وقد مضى ذكره.
وضرب: لا يجب فيه الجزاء، بلا خلاف، وهو الحية والعقرب والفأرة وما شاكل ذلك من حشرات الأرض، ومن الطيور: الحدأة وما لا يحل من الغراب، ومن البهائم: كالكلب العقور والذئب.
وضرب: اختلف فيه، وهو الأسد والفهد والنمر، ومن الجوارح مثل: الصقر والشاهين.. فهذا لا جزاء فيه عندنا.
وقال أبو حنيفة: (يضمن بالجزاء)، غير أنه قال في السبع: (إنه يضمن بأقل الأمرين: من قيمته أو شاة).
ودليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خمس لا جناح على من قتلهن في حل ولا حرم: العقرب، والفأرة، والحدأة، والغراب، والكلب العقور».
فنبه بكل واحدة من هذه الخمس على ما كان في معناها: فنبه بالعقرب على الحيات؛ لأن الأذى فيهن أكثر، ونبه بالفأرة على الوزغ والقراد والحلم، ونبه بالغراب والحدأة على العقاب والصقر والبازي والشاهين؛ لأن العدوان فيهن أكثر، ونبه بالكلب على الأسد والفهد والنمر؛ لأن العقر والعدو فيهن أكثر.
إذا ثبت هذا: فهل يكره قتل ما لا جزاء فيه؟ ينظر فيه:
فإن كان فيه أذى.. جاز لكل واحد قتله، بل هو مندوب إليه، وذلك مثل: السبع والنمر والذئب والكلب العقور وما أشبه ذلك، وكذلك حشرات الأرض، مثل: الحية والعقرب والقراد والحلم، ومن الطيور: الحدأة والغراب.
قال الشافعي: (وفي هذا المعنى الزنابير والبراغيث والقمل، غير أن المحرم لا يقتل القمل من رأسه ولحيته، فإن فعل ذلك.. تصدق بشيء لا لأجل القملة، ولكن لأجل إماطة الأذى عن رأسه، وليس ذلك بواجب عليه، وإن قتلها من ثيابه وبدنه.. فلا شيء عليه).
وأما ما ليس بمؤذ، مثل: الخنافس والجعلان وبنات وردان والرخمة.. فالمحل والمحرم فيه سواء، فإن شاء.. قتله، وإن شاء.. تركه، والأولى أن لا يقتله؛ لأنه لا غرض له فيه.
قال الشافعي: (وأكره قتل النملة)؛ لأنه روي: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن قتلها) فإن قتلها.. فلا شيء عليه؛ لأنها ليست بصيد. هذا مذهبنا.
وقال مالك: (لا يجوز للمحرم تقريد بعيره) وروي ذلك عن ابن عمر.
وقال سعيد بن المسيب في المحرم إذا قتل قرادا: يتصدق بتمرة أو تمرتين.
دليلنا: ما روي عن عمر: (أنه كان يقرد بعيره بالسقيا بالطين الرطيب). ولأنه يتأذى به، فأشبه الحية.